اعلان دار اعلى

السبت، 18 أكتوبر 2014

الأدب العربي القديم


الأدب العربي القديم أقدم أدب حي. ترجع نشأته إلى أكثر من ستة عشر قرناً. نشأ في بادية "نجد" شعراً غنائياً في شكل سمي "القصيدة". ويعد امرؤ القيس الذي وصل بهذا الفن إلى ذروة شامخة، من تلاميذ مدرسة نجد. وظلت القصيدة الجاهلية النجدية في شكلها العام، حتى العصر الحديث، مثلاً أعلى يحتذى. لا نعرف الصور التي تصور المحاولات الأولى، ولكن مدرسة نجد ترجع إلى ماقبل القرن 4. وفي القرن 6، انتشر الشعر من نجد، وقلد في سائر أنحاء الجزيرة، وحمل خصائص محلية، ولكن سلطان المثل النجدي لم يضعف إلا بظهور الإسلام.


يختلف شكل القصيدة العربية عن شكل القصائد المعروف في الآداب الأخرى. وتمتاز بأن موضوعها، وهوالمديح، يمهد له بوصف الرحلة إلى الممدوح، ويقدم للرحلة بشعر في النسيب يشكو فيه الشاعر فراق الأحبة. وفي الرحلة يتاح للشاعر أن يصف جواده، أو ناقته، والطبيعة من حوله، وحياة الحيوان وصراعه مع غيره من الحيوانات أو مع الطبيعة. والمدح يتغنى بفضائل الصحراء ويصف حياة الكريم في ضيافته وشربه وحروبه. وأبيات القصيدة عادة من 60 إلى 100، وكلها تلتزم بحراً واحداً وقافية واحدة.
والمعلقات عشر أو سبع، هي خير مثال لهذا الشعر. ولاشك أن شعراء ضاع شعرهم سبقوا مدرسة نجد. وقد ساهم بلاط المناذرة وبلاط الغساسنة في تطوير القصيدة، ولكنهما لم يخلقا نوعاً جديداً إلى جوار القصيد النجدي. ولما كانت القصيدة تجمع موضوعات عدة فإنها كانت امتحاناً طيباً لقدرة الشاعر.

امتاز قصيد نجد، إلى جانب هذا الشكل العام والموضوعات المعينة، بخصائص ذاعت وقلدت، مثل التركيز في رسم الصورة، وتعميم الفكرة بحيث تصبح في يسر مثلا أو حكمة. وبينما كان وصف المرأة في النسيب عاماً مبهماً كان وصف الحيوان والصحراء واقعياً دقيقاً. ولأن الشاعر يلجأ إلى الصورة المركزة، أصبح محور النقد هو البيت الواحد. ولما كان الشعر لفترة طويلة غير مكتوب، يعتمد على السماع في الرواية، فإن الشاعر لم يستطع أن يركب الصورة أو أن يسرح بالخيال، اعتماداً على تذكر السامعين لأبياته السابقة. ومن هنا تحدد الشعر من حيث الموضوعات والصور، وأخذ يجول حول المعروف والمسلم به، واتخذ الشكل مكانة ممتازة، لأنه المجال الأكبر للتجديد والتنويع. وصلنا عن هذه الفترة بعض مقطوعات ورجز، في وصف الحروب والرثاء، ثم حماسيات يتغنى بها الصعاليك مثل: الشنفرى وتأبط شراً، وهجاء يمثل سلطة شيطان الشعر على الشاعر.

تركز اهتمام الشعراء حول الألفاظ، فاكتسب بعضها جمالاً وسحراً ولا توجد في هذه الفترة قصائد خالصة لموضوع واحد، إلا مقطعات قليلة في الخمر. أما الطرديات فمنعدمة، لأن وصف الصيد كان جزءاً من القصيدة العامة. أما شعراء الحضر في الجاهلية، فقد اختلف شعرهم قليلاً من حيث الموضوع والمعالجة، ولكن الذي بقي لنا منه قليل، أشهره شعر عدي بن زيد في الخمر، وشعر أمية بن أبي الصلت الديني. وليس هناك ما يقطع بعدم احتمال كتابته بعض الشعر قبل الإسلام، ولكن الواضح أنه لم يصلنا منه شيء.

يشير الفرزدق في شعره إلى ديوان مكتوب للبيد الشاعر. ولكن تدوين الشعر العربي بدأ في القرن 8 أي بعد تأليفه بأكثر من 200 أو 300 سنة، وهذا يفتح باباً كبيراً في صحة هذا الشعر من حيث حجة النص، ونسبته إلى شاعر معين. والنثر من هذه الناحية أوسع مجالاً للشك في صحته، ولكن هناك أدلة على أن تجويد النثر كان معروفا. فلقد وصلت حكم وأمثال تصور فن الإيجاز المتجلى في صناعة القصيد. وهناك إشارات إلى صحف مكتوبة في الجاهلية. وربما كانت بعض الأحكام القضائية تكتب للاطمئنان إلى تنفيذها.
وهناك نماذج من الخطابة وضلتنا تمتاز بالإطناب والسجع والمقابلة بين الفقرات المتساوية طولاً، وإذا كانت الفقرات التي أوردها الجاحظ في كتابه "البيان " تدل على مستوى هذا الفن، فإنه من العسير أن تطمئن اطمئناناً كاملاً إلى صحة نصوص هذه الخطب، فقد يصح بعض فقراتها ليس غير. أما المثل، وكان الأحق أن يكون بلهجة القبيلة المحلية لطبيعة وظيفته، فإن الاطمئنان اإلى لفظه أعسر. وقد وصلت عن هذه الفترة أيضاً أحاجي وقصص حيوان، وقصص عن أيام العرب، نشك في نصها ونطمئن إلى وقائعها، وإلى فنية التركيب والبناء، وقد نطمئن إلى بعض فقراتها، وإلى الشعر الذي يحليها.

والاطمئنان إلى نصوص عن القبائل الجنوبية أعسر، حتى أنه يمكن الجزم بأن كل هذه النصوص خضعت لتغيرات كثيرة عند التدوين. وجاء القرآن الكريم بالفصحى، لغة قريش، التي سادت قبيل الإسلام، ولم يكن مشبهاً لأي نثر أو شعر قبله، وإن لم يخرج عن الإطار العام للذوق العربي. استعمل طريقة جديدة في القصص، وجاء بالحجج التي لم يألفها العرب في خطاباتهم ولا في قصصهم. ولأول مرة يرى العرب نثراً يخضع الشكل لمتطلبات المضمون، والمعنى على غير ما ألفوا في بيانهم، يستعمل السجع بفن ساحر، كما يكسب الفكرة قدرة على التأثير بذاتها دون أن ترتكز على الأسلوب. وظل القرآن الكريم مثلاً أعلى بإعجازه يتحدى كل محاولات التقليد فكان أثره "خارج نطاق القصيدة" في المجال الأدبي يدور حول ما أيقظ من أفكار، وما أشاع من صور، لاحول الأسلوب بالمعنى الدقيق. وكان للقرآن الكريم الفضل في تخلص الخطباء - فيما عدا علي بن أبي طالب والخوارج والأولين منهم من سجع الجاهلية، واتجاههم نحو الاهتمام بالموضوع والفكرة. كذلك أثر في اتجاهات الخطباء من الحكام والخلفاء واتجاهات الكتاب والوزراء، في سائلهم وتوقيعاتهم، حين نشأت الكتابة أيام سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز.
في العصر الإسلامي بدأ الشعر يصور التغير الاقتصادي والاجتماعي، الذي نشأ من انتشار الدعوة المحمدية وتكوين الدولة الإسلامية، ففقد الهجاء مركزه الجاهلي، وإذا هو في صورة جديدة، هي المناقضة بين الشعراء أو طوائف منهم. والحماسة تكتسي بالوان الاستشهاد الديني، وخاصة عند الخوارج. والغزل ينفرد بقصائد كاملة في بعض المدن الزاهرة في الحجاز، فيرق أسلوبه باللهجة الحجازية، وبسبب شيوع فن الغناء وتأليف الشعر الغزلي الذي يقصد التغني به. وغزل الحجاز نوعان: نوع قصصي واقعي مرح، يمثله عمر بن أبي ربيعة في مكة، وآخر عذري رمزي حزين محروم، عند الشعراء العذريين في المدينة، مثل جميل والأحوص والمجنون.

في هذه الفترة يظهر الشعر السياسي، ويتطور الرجز – من مجرد شعر حماسي لاستثارة المحاربين – إلى ميدان استعراض البراعة اللغوية عند "العجاج"، ويصبح الشعر – دون أن يفقد رونقه ولا فنيته – أكثر التصاقاً بحياة الجماعة، مؤدياً لوظيفته الاجتماعية. وهنا يتوافق الشكل مع المضمون، وتعود القصيدة العربية – بعد توقف قصير المدى في أثناء الفتوح- إلى قوتها، وقد تخلصت من كثير من جمود الموضوع في الجاهلية.

نمت القصيدة في العراق والجزيرة، وحمل لواء الشعر في هذه المنطقة جرير والفرزدق والأخطل وذو الرمة، وكان الأخطل أكثرهم تمثيلاً وتنفيذاً للشكل الجاهلي، في شعر الفخر ومدح الأمويين. وصور الفرزدق وجرير فجاجة الحياة البدوية واستعملا الشعر للوصول إلى الثراء، وطورا موضوع القصيدة، وأدخلا فيها تفصيلات من الخلافات السياسية والقبلية، وانتعشت النقائض على أيديهما، وأساسها المفاخرة والهجاء، وركزا مقدرتهما على إبراز معارفهما اللغوية، لإثارة إعجاب مدرسة النقادر اللغويين التي تكونت في هذه الفترة من جامعي اللغة والشعر القديم. وشعر ذو الرمة أمعن في استعراض اللغة، وأجمل في وصف الصحراء تلهب صوره الغزل أحياناً. وبينما كان الشعر الجاهلي يمثل العاطفية والمحدودية، والمستوى الخلقي السامي، كان الشعر الأموي يمثل تضارب القوى، وتصارع المثل في الحياة الجديدة، وخلافات الأحزاب على الخلافة والحكم. وفيما عدا الغزل الذي ظل في مستواه المثالي، فإن الموضوعات الأخرى تنزل إلى مستوى الحياة اليومية. وبالرغم من التمثل بكثير من آيات القرآن، فإن الاتجاه الخلقي يضعف. وقد غص الشعر بما يعجب الجماهير المحتشدة لمشاهدة مباريات النقائض.

جمعت دواوين شعراء هذا العصر، إما في حياتهم أو مباشرة بعد مماتهم. وشعر هذا العصر أكثر الشعر العربي القديم صحة، من حيث النص أو نسبته إلى الشاعر. أما شعر العصر العباسي - الذي تبدأ خصائصه في الظهور منذ أواخر العصر الأموي (منتصف القرن 8) – فإنه يمتاز بأنه شعر حضري وبأنه قد ساهم فيه لأول مرة شعراء ليسوا عرباً خلصاء، وكان فحوله من الموالي. وقد أثرت هذه الظاهرة الأخيرة في النثر أكثر من الشعر. وظل الوزن والشكل دون تغيير. وحصر بحور الشعر الخليل بن أحمد (791)، فتجمدت منذ ذاك.

لكن اللغة رقت عن لغة البادية، مع احتفاظ تام بالمستوى الفصيح. ولما أوى الشعر إلى بلاط الخلفاء، الذين رعوا الشعر والشعراء، اتخذت القصيدة شكلاً رسمياً مسجلاً، وأصبح هذا الشكل وحده مجال تنافس الشعراء بسبب تمسك الخلفاء بثقافتهم العربية، وبسبب ميل فطري في العرب عامة إلى المحافظة على القديم، ولهذا أصبح مجال التجديد نسبياً. ولكن بالرغم من صرامة الشكل والموضوع، فقد حدث في المعالجة التفصيلية للموضوعات التقليدية، تغيرات تنوع المدح والهجاء، ولكن الغزل كان أطوع في التجديد، فلقد حمل آثار الحجاز في الرقة والغنائية إلى سوريا، حيث تطور على يد الخليفة الوليد بن يزيد (744)، وعندما اختلط بشعر الخمر ووصف مجالس الشراب جاء إلى العراق مع مطيع ابن اياس، ليجد مجالات للتطور في مجالس المجون في البصرة وبغداد، حتى في قصور الخلفاء، وذخر بالصور الجديدة، والروح الماجن الساخر، والحوادث الوقعية البعيدة عما ألف العرب.
باحتكاك الثقافة العربية في هذا العصر بتراث الفرس والآراميين الحضاري، نشأ جو فكري حديث أثر في الشعر والنثر، فصورا أفكاراً جريئة، وواقعاً طلقاً متحرراً وإن كان متحللاً خلقياً أحياناً. وظل الشعر الشيعي تقليدياً، وأخرج العراق بفضل ميله إلى الشعر الخلقي والتعليمي – بشر بن المعتم وأبا العتاهية - وجاء العباس بن الأحنف (807) بغزل الفروسية القصير، فجدد في الشكل والصورة كما أدخل أبان بن عبد الحميد اللاحقي (815)م. نوعاً من الرجز، هو المزدوج بشعره التعليمي والقصصي.

شعر هذه الفترة غزير كثير مجدد في داخل الإطار التقليدي الثابت. وفي هذه الفترة دخلت الصنعة الشعر، فإن العقل الحضري لم يستطع أن يعوض الشعر عن بداوة العاطفة وصدقها وسموها، فبدأ الجهد يبذل في انتقاء التشبيهات وتوليدها، والتأنق في صور التعبير، فظهر المذهب البديعي حين فشا البديع في شعر الشعراء. وبدأ هذه الحركة بشار بن برد (744)، وهو أول شاعر فحل غير عربي خالص. وينسب إلى مسلم بن الوليد (من الجيل اللاحق لبشار) أنه أول من أفسد الشعر بالبديع. وإن امتدح بعض النقاد مذهبه والواقع أنه أكثر بشكل ملحوظ من استعمال المحسنات البديعية، حتى أصبحت أبرز سمات شعره. والعجيب أن معاصره أبا نواس (803) الذي كان أغزر شعراء العربية إنتاجاً وحيوية وتنوعاً في الموضوعات، لم يتجه إلى الإسراف في البديع مثله. وأحيا أبو نواس الطرديات وروج للخمريات، وتغزل في فحش في الغلمان والنساء. وأخذت الثقافة اللغوية التي ذاعت لدى شعراء هذا العصر تجني على الشعر والذوق، فهبط المستوى الفني وبعد عن الطبيعة والعاطفة وعمت الصنعة في البديع.


بالرغم من شيوع الكتابة نسبياً فإن شعر هؤلاء الشعراء أهمل، بسبب عدم حاجة اللغويين إليه في عملية جمع اللغة، واعتبارهم أنه غير موثوق بسلامة لغته لحداثته. وإلى توقيعات الوزراء أو الكتاب، ترجع بذور المقالات الأدبية. وأول من طوع أسلوب الخطابة القديم ليدل على حاجات العصر هو عبد الحميد الكاتب (750) ولم يكمل هذا التطويع إلا عن طريق الترجمة، وهذا ما يحدث في كل اللغات. وبفضل ابن المقفع (757) الذي ترجم عن الأدب البهلوي المزدهر في بلاط الساسانيين، وبفضل من جاؤوا بعده، ذلل النثر العربي. ولا يقلل التغيير الذي أصاب نثر ابن المقفع في التدوين شيئاً من هذه الحقيقة. وهذا الأدب المترجم كان تعليمياً وعظياً، يبين للطوائف الحاكمة المختلفة دورها في المجتمع وآداب مهنتها، في صورة حكم وأمثال وقصص قصار، وسمي هذا كله "أدباً" فنجد أدب الكتاب وأدب الملوك... إلخ، أما القصص الفني، فقد بدأ لدى جامعي الأخبار وسير الغزوات على نحو ما فعل ابن إسحاق في سيرة النبي. كذلك وصلت بعض قصص العشاق في شكل فني.

اقرأ عن الأدب العربى فى العصر الاسلامى 

تأثر النثر الكلامي (الفلسفي) بما ترجم من منطق اليونان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق